فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{لَقَدْ تَابَ الله على النبى}
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو العفوُ عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه {والمهاجرين والانصار} قيل: هو في حق زلاتٍ سبقت منهم يوم أحُدٍ ويوم حُنينٍ، وقيل: المرادُ بيانُ فضلِ التوبةِ وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاجٌ إليها حتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِما صدرَ عنه في بعض الأحوالِ من ترك الأَوْلى {الذين اتبعوه} ولم يتخلفوا عنه ولم يُخِلّوا بأمر من أوامره {فِى سَاعَةِ العسرة} أي في وقتها، والتعبيرُ عنه بالساعة لزيادة تعيينِه وهي حالُهم في غزوة تبوكَ كانوا في عُسرةٍ من الظَّهر، يعتقِبُ عشرةٌ على بعير واحد، ومن الزاد تزوّدوا التمرَ المدوّد والشعيرَ المسوّس والإهالة الزَّنِخة، وبلغت بهم الشدةُ إلى أن اقتسم التمرةَ اثنان وربما مصّها الجماعةُ ليشربوا عليها الماء المتغيِّرَ، وفي عسرة من الماء، حتى نحَروا الإبلَ واعتصروا فروثَها وفي شدة زمانٍ من حِمارة القَيظ ومن الجدب والقَحط والضيقة الشديدةِ، ووصفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذكر من اتباعهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتبِ من الشدة للمبالغة في بيان الحاجةِ إلى التوبة فإنه ذلك حيث لم يُغنهم عنها فلأَنْ لا يستغنيَ عنها غيرُهم أولى وأحرى {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} بيانٌ لتناهي الشدة وبلوغِها إلى ما لا غايةَ وراءَها وهو إشرافُ بعضهم على أن يَميلوا إلى التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام وفي كاد ضميرُ الشأنِ أو ضميرُ القوم الراجعُ إليه الضميرُ في منهم، وقرئ بتأنيث الفعل وقرئ من بعد ما زاغت قلوبُ فريقٍ منهم يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لُبابةَ وأضرابِه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكريرٌ للتأكيد وتنبيهٌ على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العُسرة والمرادُ أنه تاب عليهم لكيدودتهم {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} استئنافٌ تعليليٌ فإن صفةَ الرأفةِ والرحمةِ من دواعي التوبةِ والعفوِ ويجوز كونُ الأولِ عبارةً عن إزالة الضررِ والثاني عن إيصالِ المنفعةِ وأن يكون أحدُهما للسوابق والآخَرُ لِلّواحق. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا لهم وتعظيمًا لقدرهم، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] إلخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين، وقيل: المراد ذكر التوبة عليه عليه الصلاة والسلام وعليهم، والذنب بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم من باب خلاف الأولى نظرًا إلى مقامه الجليل، وفسر هنا على ما روي عن ابن عباس بالاذن للمنافقين في التخلف، وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيًا إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا.
وجوز أيضًا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل: إن ذنبهم كان الميل إلى العقود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازًا حيث أنه لا مؤاخذة في كل، وظاهر الإطلاق الحقيقة، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم {الذين اتبعوه} ولم يتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم {فِى سَاعَةِ العسرة} أي في وقت الشدة والضيق، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والاهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة، وفي شدة من الماء حتى تحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة.
ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضًا تأكيد لأمر التحريض السابق {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة، وقيل: كان ميلًا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام.
وفي {كَادَ} ضمير الشأن و{قُلُوبٍ} فاعل {يَزِيغُ} والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرًا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضًا والرابط عليه الضمير في {مِنْهُمْ} وهذا على قراءة {يَزِيغُ} بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة وحفص والأعمش وأما على قراءة {تزيغ} بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون {على قُلُوبٍ} اسم كاد و{تزيغ} خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني وأبو طالب المكي وغيرهما.
وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من جوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في شرح المفصل وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع.
وأجاب بعض فضلاء الروم بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضًا، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أبي علي، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعًا ظاهرًا فالحق الجواز، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرًا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم.
وضعف بأنه اضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيًا وقد قالوا: إنه لا يرفع إلا ضميرًا عائدًا على اسمها وكذا خبر سائر اخواتها ما عدا عسى في رأي، ولا يخفى ورود هذا أيضًا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل.
وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ أعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول {إِن كَادَتْ} كما فرأ به الله تعالى عنه.
ولا يجوز كان إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل، وكأن الرضى لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق.
وذهب أبو حيان إلى أن {كَادَ} زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال، ويؤيده قراءة ابن مسعود {مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ} بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو: {لم يكد} [النور: 40] مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى.
وقرأ الأعمش {تزيغ} بضم التاء، وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة {مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرًا، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول، ويحتمل أن يكون الضمير للفريق، والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق، وقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو، وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع، وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق. اهـ.

.قال القاسمي:

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}
اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعًا أو كرهًا، والمرغّب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقًا أو كسلًا، وأنبأ عما لحق كلًا من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلًا للدعة وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم، فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية، وصدرها بتوبته على رسوله، وكبار صحبه جبرًا لقلوبهم، وتنويهًا لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثًا للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والإستغفار، حتى النبيّ والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح، كما يكون لمدح الموصوف، يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، وهو كما قال حسان رضي الله عنه:
ما إِنْ مَدَحْتُ مُحَمّدًا بِمقالَتِي ** لَكْنِ مَدَحْتُ مَقالَتِي بِمُحَمَّدِ

وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار.
قال الحاكم: ودلت على فضل عثمان، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم، ووصفهم باتِّباعه، فوجب القطع بموالاتهم.
وقوله تعالى: {فِي ساعَةِ الْعُسْرةِ} أي: في وقتها، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، والعسرة حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الظَّهْر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر، ثم يشرب عليها: وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب، وفي عسرة من الماء، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره، فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.
وقد حكى القالي في أماليه أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها، أو خزموها لئلا ترعى، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها، فشربوا ثميلها، وهو كثير في الأشعار. كذا في العناية.
ونقل الرازي عن أبي مسلم، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول، وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها.
وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر}، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة، والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. انتهى.
أقول هذا الإحتمال، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية، وسباقها، القاصران على غزوة تبوك، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج، واتباعه عليه السلام، بل وقع أحيانًا في مصاف القتال.
وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها غزوة العسرة، ومن خرج فيها جيش العسرة.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: عن الحق، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم.
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى: {ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار.
قال بعضهم: ذكر التوبة أولًا قبل ذكر الذنب، تفضلًا منه، وتطييبًا لقلوبهم. ثم ذكر الذنب بعد ذلك، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيمًا لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم، وعفا عنهم. ثم أتبعه بقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} تأكيدًا لذلك. اهـ.